السبت، 20 أغسطس 2016

اليوم 1 - الأسر طوعاً

 

بين موت وموت ... بين النيران والنيران
ع الحبل ماشيين .... الشجاع والجبان
عجبي عَلادي حياة .. ويا للعجب
إزاي أَنا - يا تخين - بقيت بهلوان
عجبي !!!

صلاح جاهين



 محمد اليماني

من سنين طويلة , و أنا في رحلة لمدينة رأس البر , فرضت عليا الأقدار دخول السيرك , و المفروض إني دخلته علشان أبتسم حسب برنامج الرحلة , ولكن الحقيقة إنى خرجت كارهة السيرك ، كارهة صوت لسعة الكرباج على جسم الأسد , " الملك اللي أصبح أسير" , و كارهه الوحشية من الإنسان تجاه الوحوش ، و العنف ما كانش بس مع الحيوانات , بل كانت فقرة البلياتشو فقرة مش بس ساخرة , لكنها مُهينة بشكل مستفز , لأنهم بيقدموا الابتسامة بالتمادي في إهانة لاعبي البلياتشو ، إهانة تخلى الناس تضحك , لكن ضحك أبسط ما يقال عنه إنه ضحك رخيص  , فعلاً كنت حزينة لأني شايفة ملك أسير ذليل , و بلياتشو حزين مُهان , و إن كأن الأسد أسير من أجل قطعة لحم , فالبلياتشو أسير من أجل أجر زهيد لأكل عيشه ، حياة عنيفة وقاسية و مميتة. ... و هنا خرجت أسأل نفسي : هل لازم إضحاك الناس يكون بأسر الحيوان الحُر , و إهانة كرامة الإنسان المكرم من الله ؟ , حقيقي إن كان فليذهب السيرك وأسره و وحشيته و ذُله إلى الجحيم , فلا معنى لأي شيء بدون حرية و كرامة .
و بعد 20 سنة  , فرضت عليا الأقدار تاني دخول السيرك على سبيل المجاملة لإنسان من أعز الأصدقاء لي و للكابتن " روما اليماني "  و هو كابتن " عماد يوسف " من أبرز حكام كرة القدم ببورسعيد , بعد كلامه الكثير عن فن صديقه " الكابتن روما " و أسرته و انبهاره بفنهم .
 

و أمام تهربي من دخول السيرك , و إصرار " الكابتن عماد " على حضوري للعرض ,  قررت فعلا دخول العرض , بس المرة دي لقيت شيء مختلف تماما ما شفتوش قبل كده , لأني ببساطة ما شفتش مُروض في عينيه شراسة , ولا سمعت صوت لسعة الكرباج على جسم الأسد , و لا سمعت صوت صرخة المروض مع نظرة عينية المليانة شراسة ، لكن شفت إنسان بيعامل حيوان مفترس كطفل , بمنتهى الرحمة و الطيبة والتدليل , والأغرب إن الحيوان المفترس بيقدر يفهم ويستوعب ده ويبادل غيره الحب بالحب  , شيء غريب فعلا .
أما فقرة البلياتشو , ما كانش فيها الأسلوب المُهين اللي شفته قبل كده ، كانت فقرة مُعتمدة على ذكاء ومهارة البلياتشو الحركية , حتى الأسلوب الساخر راقي و خفيف الظل ، حقيقي فن راقي و خالي من أي شيء جارح أو مُهين لكرامة الإنسان , و هنا للمرة التانية أخرج و أنا في نفسي سؤال تاني لكن مختلف عن السؤال الأول ,  هل يا ترى الأخلاق و الرحمة و الطيبة و الحنية دي ممكن تخلى  أي مخلوق إنسان أو حتى حيوان مُفترس يقبل الأسر طوعاً عن الحرية في عالم المجهول ؟   فعلاً ممكن الإنسان يكون أسير لمكان أو فكرة أو عمل أو شخص طوعاً نتيجة حبه له و قناعته به , و يلاقى في هذا الأسر قمة السعادة و الحرية ، و ممكن الإنسان يعيش بمطلق حريته في عالم متوحش غابت عنه الرحمة و المبادئ و القيم و المثل العليا , و يواجه بشر أشرس من الوحوش المفترسة و تكون نتيجة كل ده أنه يشعر أنه في سجن كبير .
أفكار كثير تبدو غريبة ولكنها واقعية جدا , و من واقع الحياة , لأن الحياة سيرك كبير و و لأن اليوميات مصورة ورغم الصور الكثير جدا المصورة من داخل السيرك , ما لقيتش صورة تعبر عن المفهوم ده مفهوم " الأسر طوعا ً " إلا صورة واحدة على صفحة " محمد اليماني "  الشخصية على الفيس بوك , و الحقيقة كانت صورة رائعة و معبرة جدا و هو محبوس في قفص واحد مع الأسد .
و هنا الأسد أسير " لمحمد " و " محمد " أسير للأسد , ورغم كده ما حدش فيهم متضرر من الأسر , لأنه ببساطة الأسد نايم على رجل "محمد " كما لو كان طفل صغير و " محمد " مطمئن لوجوده مع الأسد دون سلاح يحميه يعنى الاثنين أسرى لبعض برضاهم دون إكراه  .
حقيقة الأسر مش دايما نوع من أنواع العذاب , و لا الحرية دايما مصدر سعادة , المهم إنت أسير لإيه ؟ و بتمارس الحرية إزاي ؟ و إيه القيمة العائدة على الإنسانية من حريتك أو أسرك   ؟
في قصص كثيرة في الأدب و الواقع بتدور حول مفهوم الحرية و الأسر , و من أشهر الروايات الأدبية عن فتاة ماتت من أجل حريتها رواية كارمن , فهل كانت كارمن فعلا حرة ؟
أما أشهر بطولات الأسر فكانت للبطل البورسعيدي " محمد مهران " الذي اقتلعت عيناه قوات الإحتلال الإنجليزي فهل كان فعلاً أسيرا ؟

"  كارمن  "

 " كارمن " رواية شهيرة من الأدب العالمي , للروائي الفرنسي " بروسبير ميرميه " , Prosper Mérimée كتبها عام 1847 , و بتحكي قصة بنت غجرية اسمها      " كارفتسيا "  أو " كارمن " , و عريف شرطة اسمه " خوسيه نافارو " و الذي قادته ظروف عمله إنه يتعرف على " كارمن " و هي متهمة بمحاولة قتل سيدة ، " كارمن " كانت فتاة شرسة متقلبة المزاج , عنيفة تعشق الحرية , و الحرية في نظرها هي فعل كل ما تريد فعله مهما كان عنيفا او ماجنا أو مخالفا للقانون  ، و لما وجدت " كارمن نفسها مذنبة أسيرة لرجل الشرطة " نافارو " ليطبق عليها القانون , و لم يكن هناك وسيلة لهروبها إلا إيقاع " نافارو " في حبها ليخالف القانون و يساعدها على الهرب , و فعلا سهل " نافارو " هرب " كارمن " و أطلق سراحها حباً لها , و وجد نفسه بعدها مذنب مخترق للقانون , فلا يجد أمامه إلا إنه يكون فرد من أفراد عصابة " كارمن الإجرامية , و بهذا يكون دايماً قريب منها  , و لكن هيهات أن يطول صبر " نافارو " على تورطه المستمر في جرائم متتالية من لحظة معرفته ب" كارمن " دون الفوز ب" كارمن "  نفسها , و هنا قرر " نافارو"  الزواج منها , و لكن المفاجأة إن " كارمن "  تشعر أنها أمام خيارين إما قيد الزواج , و إما حياتها الحرة الماجنة , فتختار " كارمن  " الحرية و ترفض الزواج و لكن " نافارو " يُصعب الاختيار على " كارمن " و يخيرها بين الزواج أو أن يقتلها , فيكون اختيارها هو الموت , و هنا يتضرع لها " نافارو " و يركع أمام قدميها متوسلا لها أن تتزوجه فهو لا زال يحبها و لا يريد قتلها , و لكن عبثاُ يحاول فيخرج السكين و يقتل " كارمن " و بعدها يُحكم على " نافارو " بالإعدام , و يدفع حياته و سمعته و شرفه الوظيفي ثمنا لحبه " لكارمن " ، أما " كارمن " فتختار الموت , و تدفع حياتها ثمنا لحرية ارتكبت فيها كل الآثام و الخطايا في حق نفسها , و في حق الناس و المجتمع .

  
البطل المصري البورسعيدي
بطل معركة الجميل 1956  " محمد مهران  "

 أي حرية أو أسر لابد أن يكون لهما هدف و قيمة إنسانية , تعود على البشرية منهما لتكون لحياة الإنسان نفسها قيمة , فكم من المجرمين عاشوا حياة " كارمن "  يظنون أنفسهم أحرارا و هم أسرى شرورهم , ماتوا غير مأسوف عليهم تلعنهم الإنسانية .
و كم من الأسرى تم أسرهم في المعارك , يجدون كل ألوان العذاب , و يفضلون الأسر عن بيع الوطن ، ربما يفقدون حياتهم , أو يصبحون في أوطانهم مفقودين في حرب لم يُستدل عليهم , و لا تعلن عنهم قوات العدو , و ربما يتم الإفراج عنهم يوماً في اتفاقية تبادل أسرى , و ربما يفقدون أغلى ما لديهم في الأسر , مثلما فقد البطل " محمد مهران " البورسعيدي عينيه حباً لمصر , فكان الأسر أكبر تتويج لبطولاته
ولد " محمد مهران " في ظل الاحتلال الإنجليزي , و عاش ناقما على أفعال جنود الإحتلال , و بعد ثورة يوليو 1952 بشهور , أعلنت القوات المسلحة المصرية فتح معسكر لتدريب الفدائيين تحت اسم فدائيو حرس وطني بورسعيد , و انضم له شباب بورسعيد و من بينهم " محمد مهران " ، و ظل هذا الشباب يطارد الإنجليز حتى اضطروهم لتوقيع اتفاقية الجلاء في 19 أكتوبر 1954 , و أهم بنودها انسحاب القوات البريطانية من مصر في موعد أقصاه عشرين شهرا , لذا استمر الشباب في العمل الفدائي حتى انسحب الإنجليز تماماً في 18 يونيو 1956 , و كانت بورسعيد سبب استقلال مصر و إنهاء الإحتلال إلى الأبد , و أحتفل ناصر مع شباب بورسعيد على أرض بورسعيد , و تم إنزال العلم البريطاني و تمزيقه ووضعه تحت الأقدام .
و لكن كان هناك احتلال آخر للمجرى الملاحي لقناة السويس من قِبل فرنسا و بريطانيا , فكان قرار الرئيس " جمال عبد الناصر " التاريخي في عيد الثورة عام 1956 بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية , و من هنا كانت مؤامرة العدوان الثلاثي 1956 من قبل فرنسا و بريطانيا و إسرائيل .
في يوم الجمعة 27 يوليو 1956 تم استدعاء فدائيو بورسعيد , و تشكيل كتيبة حرس وطني فدائي بورسعيد , و كان " محمد مهران " قائد السرية الثانية , و كانت مهمته حماية مطار بورسعيد و منطقة الجميل , و تم تدريبهم على نفس الأرض المكلفين بحمايتها , و أستمر التدريب حتى بداية العدوان الثلاثي في 29 أكتوبر 1956 .
و في يوم الاثنين 5 نوفمبر 1956 , قامت قوات الإحتلال الإنجليزي بالقصف الجوى على بورسعيد مع أول ضوء كعادتها اليومية منذ بداية العدوان الثلاثي , لكن يوم 5 نوفمبر كان العدوان في أبشع صوره .
و في هذا اليوم كانت هناك عملية إنزال بالمظلات للعدو , تعامل معها البطل " محمد مهران " و رفاقه بالبنادق و الرشاشات , و لكن مع الأسف وصل جنود الإنجليز للحفرة المختبئ بها " محمد مهران " و أسروه , و حكموا عليه باقتلاع عينيه لترقيع قرنية الجندي الإنجليزي الذي أصيب بنيران مدفعيته ، حاولوا كثيراً مساومة " محمد مهران " و تعذيبه لإفشاء أسرار الفدائيين مقابل ترك إحدى عينيه , و لكنه يقول لهم ما كان لي أن أخون وطني و لو كان الثمن عيناي , و بالفعل تم استئصال عينيه ، فيُضحى محمد مهران بعينية بعد أن استأصلها له الطبيب الإنجليزي في جراحة إجرامية تخرق كل القواعد الدولية و الإنسانية كعادة المُستعمر دائماً , و لكن أبداً ما كان " محمد مهران " ليختار أن يخون الوطن , و يفضل الحياة في الظلام و فقدان بصره على أن يفقد وطنيته و ضميره الإنساني , و يعود " محمد مهران " بعدها بطلا مصريا ترفعه مصر فوق الأعناق .
و فشل العدوان الثلاثي و رحل إلى غير رجعة , و بقي " محمد مهران " بطلا مصريا عظيما ،  قالوا له ستكون عبرة لأمثالك فكان قدوة , و شرفا لكل مصري وطني مخلص ،  ربما غاب النور عن عين هذا البطل , و لكن لم يغب نور الله في قلبه , و لم يبتعد يوماً عن أضواء الإعلام و التاريخ الوطني و الإنساني , لأنه كتب اسمه في سجل التاريخ بحروف من نور .
و هكذا نجد أسرا يصنع بطلا قوميا كأسر " محمد مهران " فكان في الأسر أكثر قوة ممن أسروه , لأنه تحرر من ذاتيته , و فضل الوطن على نفسه , و نجد حرية لا يدرك الإنسان فيها أنه أسير أهوائه و نزواته  , بل هو عبد لها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق