بين موت
وموت ... بين النيران والنيران
ع الحبل
ماشيين .... الشجاع والجبان
عجبي
عَلادي حياة .. ويا للعجب
إزاي
أَنا - يا تخين - بقيت بهلوان
عجبي !!!
صلاح جاهين
محمد اليماني
من سنين طويلة , و أنا في رحلة لمدينة
رأس البر , فرضت عليا الأقدار دخول السيرك , و المفروض إني دخلته علشان أبتسم حسب
برنامج الرحلة , ولكن الحقيقة إنى خرجت كارهة السيرك ، كارهة صوت لسعة الكرباج على
جسم الأسد , " الملك اللي أصبح أسير" , و كارهه الوحشية من الإنسان تجاه
الوحوش ، و العنف ما كانش بس مع الحيوانات , بل كانت فقرة البلياتشو فقرة مش بس ساخرة
, لكنها مُهينة بشكل مستفز , لأنهم بيقدموا الابتسامة بالتمادي في إهانة لاعبي البلياتشو ، إهانة تخلى الناس تضحك , لكن ضحك أبسط ما
يقال عنه إنه ضحك رخيص , فعلاً كنت حزينة لأني شايفة ملك أسير ذليل , و بلياتشو حزين مُهان , و إن
كأن الأسد أسير من أجل قطعة لحم , فالبلياتشو أسير من أجل أجر زهيد لأكل عيشه ،
حياة عنيفة وقاسية و مميتة. ... و هنا خرجت أسأل نفسي : هل
لازم إضحاك الناس يكون بأسر الحيوان الحُر , و إهانة كرامة الإنسان المكرم من الله
؟ , حقيقي إن كان فليذهب السيرك وأسره و وحشيته و ذُله إلى الجحيم , فلا معنى لأي
شيء بدون حرية و كرامة .
و بعد 20 سنة , فرضت عليا الأقدار تاني دخول السيرك على سبيل
المجاملة لإنسان من أعز الأصدقاء لي و للكابتن " روما اليماني " و هو كابتن " عماد يوسف " من أبرز
حكام كرة القدم ببورسعيد , بعد كلامه الكثير عن فن صديقه " الكابتن روما "
و أسرته و انبهاره بفنهم .
و أمام تهربي من دخول السيرك , و
إصرار " الكابتن عماد " على حضوري للعرض , قررت فعلا دخول العرض , بس المرة دي لقيت شيء
مختلف تماما ما شفتوش قبل كده , لأني ببساطة ما شفتش مُروض في عينيه شراسة , ولا
سمعت صوت لسعة الكرباج على جسم الأسد , و لا سمعت صوت صرخة المروض مع نظرة عينية
المليانة شراسة ، لكن شفت إنسان بيعامل حيوان مفترس كطفل , بمنتهى الرحمة و الطيبة
والتدليل , والأغرب إن الحيوان المفترس بيقدر يفهم ويستوعب ده ويبادل غيره الحب
بالحب , شيء غريب فعلا .
أما فقرة البلياتشو , ما كانش فيها الأسلوب
المُهين اللي شفته قبل كده ، كانت فقرة مُعتمدة على ذكاء ومهارة البلياتشو الحركية
, حتى الأسلوب الساخر راقي و خفيف الظل ، حقيقي فن راقي و خالي من أي شيء جارح أو
مُهين لكرامة الإنسان , و هنا للمرة التانية أخرج و أنا في نفسي سؤال تاني لكن
مختلف عن السؤال الأول , هل يا ترى الأخلاق
و الرحمة و الطيبة و الحنية دي ممكن تخلى أي مخلوق إنسان أو حتى حيوان
مُفترس يقبل الأسر طوعاً عن الحرية في عالم المجهول ؟ فعلاً
ممكن الإنسان يكون أسير لمكان أو فكرة أو عمل أو شخص طوعاً نتيجة حبه له و قناعته
به , و يلاقى في هذا الأسر قمة السعادة و الحرية ، و ممكن الإنسان يعيش بمطلق
حريته في عالم متوحش غابت عنه الرحمة و المبادئ و القيم و المثل العليا , و يواجه
بشر أشرس من الوحوش المفترسة و تكون نتيجة كل ده أنه يشعر أنه في سجن كبير .
أفكار كثير تبدو غريبة ولكنها واقعية جدا
, و من واقع الحياة , لأن الحياة سيرك كبير و و لأن اليوميات مصورة ورغم الصور
الكثير جدا المصورة من داخل السيرك , ما لقيتش صورة تعبر عن المفهوم ده مفهوم
" الأسر طوعا ً " إلا صورة واحدة على صفحة " محمد اليماني " الشخصية على الفيس بوك , و الحقيقة كانت صورة
رائعة و معبرة جدا و هو محبوس في قفص واحد مع الأسد .
و هنا الأسد أسير " لمحمد "
و " محمد " أسير للأسد , ورغم كده ما حدش فيهم متضرر من الأسر , لأنه
ببساطة الأسد نايم على رجل "محمد " كما لو كان طفل صغير و " محمد "
مطمئن لوجوده مع الأسد دون سلاح يحميه يعنى الاثنين أسرى لبعض برضاهم دون إكراه .
حقيقة الأسر مش دايما نوع من أنواع
العذاب , و لا الحرية دايما مصدر سعادة , المهم إنت أسير لإيه ؟ و بتمارس الحرية إزاي
؟ و إيه القيمة العائدة على الإنسانية من حريتك أو أسرك ؟
في قصص كثيرة في الأدب و الواقع بتدور
حول مفهوم الحرية و الأسر , و من أشهر الروايات الأدبية عن فتاة ماتت من أجل
حريتها رواية كارمن , فهل كانت كارمن فعلا حرة ؟
أما أشهر بطولات الأسر فكانت للبطل
البورسعيدي " محمد مهران " الذي اقتلعت عيناه قوات الإحتلال الإنجليزي
فهل كان فعلاً أسيرا ؟
" كارمن "
" كارمن " رواية شهيرة من
الأدب العالمي , للروائي الفرنسي " بروسبير ميرميه " , Prosper Mérimée كتبها عام 1847 , و بتحكي قصة بنت غجرية اسمها "
كارفتسيا " أو " كارمن " ,
و عريف شرطة اسمه " خوسيه نافارو " و الذي قادته ظروف عمله إنه يتعرف
على " كارمن " و هي متهمة بمحاولة قتل سيدة ، " كارمن " كانت
فتاة شرسة متقلبة المزاج , عنيفة تعشق الحرية , و الحرية في نظرها هي فعل كل ما
تريد فعله مهما كان عنيفا او ماجنا أو مخالفا للقانون ، و لما وجدت " كارمن نفسها مذنبة أسيرة
لرجل الشرطة " نافارو " ليطبق عليها القانون , و لم يكن هناك وسيلة
لهروبها إلا إيقاع " نافارو " في حبها ليخالف القانون و يساعدها على
الهرب , و فعلا سهل " نافارو " هرب " كارمن " و أطلق سراحها
حباً لها , و وجد نفسه بعدها مذنب مخترق للقانون , فلا يجد أمامه إلا إنه يكون فرد
من أفراد عصابة " كارمن الإجرامية , و بهذا يكون دايماً قريب منها , و لكن هيهات أن يطول صبر " نافارو "
على تورطه المستمر في جرائم متتالية من لحظة معرفته ب" كارمن " دون
الفوز ب" كارمن " نفسها , و هنا
قرر " نافارو" الزواج منها , و
لكن المفاجأة إن " كارمن " تشعر
أنها أمام خيارين إما قيد الزواج , و إما حياتها الحرة الماجنة , فتختار " كارمن
" الحرية و ترفض الزواج و لكن "
نافارو " يُصعب الاختيار على " كارمن " و يخيرها بين الزواج أو أن
يقتلها , فيكون اختيارها هو الموت , و هنا يتضرع لها " نافارو " و يركع
أمام قدميها متوسلا لها أن تتزوجه فهو لا زال يحبها و لا يريد قتلها , و لكن عبثاُ
يحاول فيخرج السكين و يقتل " كارمن " و بعدها يُحكم على " نافارو "
بالإعدام , و يدفع حياته و سمعته و شرفه الوظيفي ثمنا لحبه " لكارمن " ،
أما " كارمن " فتختار الموت , و تدفع حياتها ثمنا لحرية ارتكبت فيها كل الآثام
و الخطايا في حق نفسها , و في حق الناس و المجتمع .
البطل المصري
البورسعيدي
بطل معركة الجميل 1956
" محمد مهران "
أي حرية أو
أسر لابد أن يكون لهما هدف و قيمة إنسانية , تعود على البشرية منهما لتكون لحياة
الإنسان نفسها قيمة , فكم من المجرمين عاشوا حياة " كارمن " يظنون أنفسهم أحرارا و هم أسرى شرورهم , ماتوا
غير مأسوف عليهم تلعنهم الإنسانية .
و كم من الأسرى
تم أسرهم في المعارك , يجدون كل ألوان العذاب , و يفضلون الأسر عن بيع الوطن ،
ربما يفقدون حياتهم , أو يصبحون في أوطانهم مفقودين في حرب لم يُستدل عليهم , و لا
تعلن عنهم قوات العدو , و ربما يتم الإفراج عنهم يوماً في اتفاقية تبادل أسرى , و
ربما يفقدون أغلى ما لديهم في الأسر , مثلما فقد البطل " محمد مهران " البورسعيدي
عينيه حباً لمصر , فكان الأسر أكبر تتويج لبطولاته
ولد " محمد
مهران " في ظل الاحتلال الإنجليزي , و عاش ناقما على أفعال جنود الإحتلال , و
بعد ثورة يوليو 1952 بشهور , أعلنت القوات المسلحة المصرية فتح معسكر لتدريب
الفدائيين تحت اسم فدائيو حرس وطني بورسعيد , و انضم له شباب بورسعيد و من بينهم "
محمد مهران " ، و ظل هذا الشباب يطارد الإنجليز حتى اضطروهم لتوقيع اتفاقية
الجلاء في 19 أكتوبر 1954 , و أهم بنودها انسحاب القوات البريطانية من مصر في موعد
أقصاه عشرين شهرا , لذا استمر الشباب في العمل الفدائي حتى انسحب الإنجليز تماماً في
18 يونيو 1956 , و كانت بورسعيد سبب استقلال مصر و إنهاء الإحتلال إلى الأبد , و
أحتفل ناصر مع شباب بورسعيد على أرض بورسعيد , و تم إنزال العلم البريطاني و تمزيقه
ووضعه تحت الأقدام .
و لكن كان
هناك احتلال آخر للمجرى الملاحي لقناة السويس من قِبل فرنسا و بريطانيا , فكان قرار
الرئيس " جمال عبد الناصر " التاريخي في عيد الثورة عام 1956 بتأميم
الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية , و من هنا كانت مؤامرة العدوان الثلاثي
1956 من قبل فرنسا و بريطانيا و إسرائيل .
في يوم
الجمعة 27 يوليو 1956 تم استدعاء فدائيو بورسعيد , و تشكيل كتيبة حرس وطني فدائي
بورسعيد , و كان " محمد مهران " قائد السرية الثانية , و كانت مهمته
حماية مطار بورسعيد و منطقة الجميل , و تم تدريبهم على نفس الأرض المكلفين
بحمايتها , و أستمر التدريب حتى بداية العدوان الثلاثي في 29 أكتوبر 1956 .
و في يوم الاثنين
5 نوفمبر 1956 , قامت قوات الإحتلال الإنجليزي بالقصف الجوى على بورسعيد مع أول ضوء
كعادتها اليومية منذ بداية العدوان الثلاثي , لكن يوم 5 نوفمبر كان العدوان في
أبشع صوره .
و في هذا
اليوم كانت هناك عملية إنزال بالمظلات للعدو , تعامل معها البطل " محمد مهران
" و رفاقه بالبنادق و الرشاشات , و لكن مع الأسف وصل جنود الإنجليز للحفرة
المختبئ بها " محمد مهران " و أسروه , و حكموا عليه باقتلاع عينيه
لترقيع قرنية الجندي الإنجليزي الذي أصيب بنيران مدفعيته ، حاولوا كثيراً مساومة "
محمد مهران " و تعذيبه لإفشاء أسرار الفدائيين مقابل ترك إحدى عينيه , و لكنه
يقول لهم ما كان لي أن أخون وطني و لو كان الثمن عيناي , و بالفعل تم استئصال
عينيه ، فيُضحى محمد مهران بعينية بعد أن استأصلها له الطبيب الإنجليزي في جراحة
إجرامية تخرق كل القواعد الدولية و الإنسانية كعادة المُستعمر دائماً , و لكن
أبداً ما كان " محمد مهران " ليختار أن يخون الوطن , و يفضل الحياة في
الظلام و فقدان بصره على أن يفقد وطنيته و ضميره الإنساني , و يعود " محمد
مهران " بعدها بطلا مصريا ترفعه مصر فوق الأعناق .
و فشل
العدوان الثلاثي و رحل إلى غير رجعة , و بقي " محمد مهران " بطلا مصريا
عظيما ، قالوا له ستكون عبرة لأمثالك فكان
قدوة , و شرفا لكل مصري وطني مخلص ، ربما
غاب النور عن عين هذا البطل , و لكن لم يغب نور الله في قلبه , و لم يبتعد يوماً
عن أضواء الإعلام و التاريخ الوطني و الإنساني , لأنه كتب اسمه في سجل التاريخ
بحروف من نور .
و هكذا نجد أسرا يصنع بطلا قوميا كأسر " محمد مهران " فكان في
الأسر أكثر قوة ممن أسروه , لأنه تحرر من ذاتيته , و فضل الوطن على نفسه , و نجد
حرية لا يدرك الإنسان فيها أنه أسير أهوائه و نزواته , بل هو عبد لها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق